في ذروة فرحة الفوز بكأس الأمم الإفريقية، اشتريت علما لمصر بعشرة جنيهات كاملة -وقتها عرفت قد إيه بلدي غالية.. عليّ!- صحيح أن بعضا من الأصدقاء اتهمني بأني أصبت بـ"البله المنغولي" لأن العلم الذي اشتريته ليس أكثر من "قطعة خشب رديئة وقماش ملون بالأحمر والأبيض والأسود يزينه نسر هزيل ولا يساوي أكثر من ثلاثة جنيهات"، إلا أنني كنت مبتهجا لأني حققت أمنية -خد دي عندك- كنت أخجل من تحقيقها سابقا، لأني كنت أتصور أن العلم مكانه في المدرسة فحسب، لو خرج منها بعد مرحلة "تحيا جمهورية مصر العربية" سيصبح أمرا مضحكا!
لكن ما حدث توقعته، وبينما ألوح في خجل بالعلم عشية -حلوة عشية دي!- المباراة النهائية "الدماغ"، خرج رجل الأمن بإحدى العمارات ليقول في زهق وضيق وغضب قد يبدو للبعض مبررا: "مبسوطين على إيه وبترفعوا العلم على إيه.. هم يكسبوا وياخدوا فلوس بالملايين واحنا كده ..هبل!".
تعاملت مع الكلمة الأخيرة على أنها موجهة لشخص آخر، لكني بشكل تلقائي طويت العلم، ووضعته تحت إبطي، ثم انسحبت تدريجيا إلى الخلف، وقد أصابتني جملة الرجل التلقائية بصدمة الحقيقة، لكن بعد لحظة تفكير بسيطة، أخرجت العلم من جديد وهتفت بصوت عال "مصر مصر.. ارقص يا حضري!"
في الأيام التالية للنصر، كتب الجميع عن المكافآت التي انهالت على اللاعبين والجهاز الفني كالأمطار في عز نوات الإسكندرية، وبينما احتج البعض على هذه الملايين التي ستذهب لـ"شوية ناس كانوا بيلعبوا كورة"، معتبرين أن هذا "سفه" و"تبذير للمال العام والخاص" ثم السؤال الفلسفي الشهير "أيهما أجدى وأهم.. صرف المكافآت بالملايين للاعبي الكرة أم التبرع بمثل هذه الأموال للمستشفيات والمدارس"، وجدت نفسي أقول -مش لازم لحد بأقول لنفسي يا جدع!- في ثقة مسترجعا مشهد العلم ورجل الأمن "لأ طبعا.. الأولى.. صرف المكافآت للاعبي المنتخب"!
وقبل أن تتصور أنني سأتقاسم مكافآت الفوز مع "عمرو زكي" لأنه بلدياتي، أو أنني سأمر على "عصام الحضري" في "كفر البطيخ" المجاورة لبلدنا حتى أطلب منه الاحتراف معه في الأرسنال، تعال نحسبها بالعقل.
أولا.. كرة القدم هذه مهنة أم هواية؟ مهنة طبعا.. وأكبر دليل على ذلك أن هناك ملايين من الدولارات تتداول فيها سنويا في جميع أنحاء العالم وكأنها أجدع بورصة وأهم مؤسسة مالية في هذا الكون، الأمر الذي يعني أن لاعبي الكرة- سواء كانوا مصريين أو أوربيين أو بوركينافيين" موظفون في مهنة اسمها "لاعب كرة قدم"، وهو ما يعني تاني أنهم يتدرجون في وظيفتهم من الأدنى إلى الأعلى وأنه كلما زاد مستوى أدائهم الوظيفي- الكروي- كلما صاحب ذلك زيادة في المرتبات والحوافز..
هذه واحدة.. الثانية- وبعيدا عن أي كلام عن الوطنية قد يبدو مكررا- فإن لاعبي المنتخب المصري -بجد ومش بهزار- نموذج وقدوة حسنة، تسأل أنت بأمارة إيه؟، بأمارة أن معظمهم- إن لم يكن جميعهم- من طبقات متوسطة ودنيا في المجتمع، وأن أحدا منهم لم يلتحق بالنادي الذي يلعب فيه بالأساس كما لم ينضم إلى المنتخب الوطني بناء على كارت توصية من اللواء فلان الفلاني، أو بتأشيرة من حضرة المدير "علان العلاني" غير قابلة للنقاش أو المداولة، فقط معظمهم- أو جميعهم- بدأ يلعب كرة القدم في الحارة والشارع والقرية، وبدأ السلم من أوله، قبل أن يصل إلى قمته –الالتحاق بالمنتخب الوطني- بعرق جبينه قولا وفعلا، وببذل المجهود وطفح الكوتة بصحيح، لأن مهنتهم الشاقة- أيوه شاقة جرب كده تجري حوالين الملعب مرتين بس!- لا تتحمل الهزار أو الدلع، ومن يقع فيهم في سكة "المياصة" تلفظه المدرجات والملاعب في وقت واحد وقائمة اللاعبين "اللامؤاخذة" كبيرة ومعروفة، ونهايتهم لا تخفى على أحد "ثمة لاعب يمني -أيوه يمني- كان نجما في السبعينيات وكاد أن يحترف في الخارج لولا أن أصابه داء التوهان واللامؤاخذة.. هو حاليا يعيش في كشك صغير في بلاده لا يجد قوت يومه إلا من المحسنين".
هكذا إذن يقدم -أو يعيد- لاعبو المنتخب الوطني- ولاعبو الكرة "الرجالة" بشكل عام- عدة قواعد أخلاقية مهمة جدا افتقدها المصريون في سنوات الفهلوة والكوسة التي نعيش فيها منذ ما يزيد على خمسين عاما، تلك القواعد التي تقول "لكل مجتهد نصيب"، "بقدر عرقك تكسب"، "الفقر وضيق الحال لا يمنعانك من التفوق والنجاح" وهي قواعد بديهية جدا ومنطقية جدا تمثل عودتها إلى قيمنا وحياتنا حدثا مهما يستحق الاحتفال، خصوصا بعدما أصبح "هز الوسط" هو الوسيلة الأسرع لـ"الرجال" من أجل امتلاك سيارة "هامر"- ولكم في "سعد الصغير" قدوة غير حسنة-
صحيح أن هناك مقارنات يمكن أن يعقدها البعض بينما ما يلاقيه العلماء في بلادنا من اهتمام ورعاية وما يلاقيه لاعبو الكرة، لكن لماذا دوما تكون المقارنة بغرض جر الأعلى إلى الأسفل وليس العكس؟ يعني فيها إيه لو أخد لاعبو الكرة اهتماما وملايينا يستحقونها وفي نفس الوقت نال العلماء والأدباء تقديرا ماديا ومعنويا يستحقونه؟ وإذا لم يحدث هذا فما ذنب لاعبي الكرة إذا ما أخذوا التقدير الذي لم ينله العلماء والمثقفون، رغم أن الجميع يستحق هذا التقدير لأنه أثبت التفوق في مجاله؟
ثم بالبلدي كده.. أيهما أفضل.. أن ياخذ لاعبو الكرة ملايين الجنيهات أمام عيوننا ولأسباب وجيهة جدا -فازوا بالبطولة عن اجتهاد وعمل حقيقي وفرحوا الناس- أم أن يلهط هذه الملايين مسئولون كبار حلوين كده- عارفهم أنت بالاسم- من دون أن يحققوا أي بطولة سوى- ولا مؤاخذة- إفقار الشعب المصري؟